التحكيم في العمليات المصرفية في الدول ذات الاقتصاد المتحول
أولاً – ماهية العمليات المصرفية:
1- ميزات العمليات المصرفية :
أ – المقصود بالعمليات المصرفية
ب- خصائص العمليات المصرفية
ج- تطبيق قانوني خاص للعمليات المصرفية
2- الصعوبات التطبيقية أما م القضاء:
أ – في بيان الخصائص وتطبيقها
ب- في مفهوم الفائدة
ج- في العمليات المصرفية الإسلامية
ثانياً – ضرورة التحكيم في العمليات المصرفية:
1- إيجابيات وسلبيات التحكيم
أ – التحكيم نظام قضائي خاص
ب- ميزات التحكيم بالمقارنة مع القضاء
ج- المآخذ على التحكيم
2- أسس التحكيم المصرفي:
أ- شرط التحكيم في العقود المصرفية.
ب- المؤسسة التحكيمية
ج- تنفيذ فرارات التحكيم في النزاعات المصرقية
خاتمة:
التحكيم في العمليات المصرفية في الدول ذات الاقتصاد المتحول.
ملخص
هل يمكن التحكيم في العمليات المصرفية ؟
رفضت المصارف بشكل عام اللجوء إلى التحكيم نظراً لوجود مآخذ عديدة عليه ترفع من نسبة المخاطر القضائية والقانونية والتي تعتبر من مخاطر العمل المصرفي.
في الدول ذات الاقتصاد المتحول والتي اتجهت من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، وجدت المصارف إن نسبة المخاطر القانونية والقضائية باللجوء إلى القضاء الوطني مرتفعة أيضاً.
لذلك كان لابد من دراسة خصائص العمليات المصرفية والصعوبات التي يواجهها القضاء في حل النزاعات المصرفية قبل تناول سيئات وإيجابيات التحكيم من أجل الوصول إلى نظام نحكيمي للعمليات المصرفية في الدول ذات الاقتصاد المتحول. إيجاد هذا النظام أصبح ضرورة مرحلية بشرط إيجاد نظام يتجاوز المآخذ التي يقدمها المصرفيون على التحكيم وأهم الشروط هي إيجاد هيئة عامة تابعة للمصرف المركزي تهتم بالتسويات وحل النزاعات المصرفية بين المصارف بين بعضها البعض وبين المصارف من جهة والعملاء من جهة أخرى على أن تمنح هذه الهيئة التحكيمية صلاحيات قضائية لجهة إيقاع الحجز الاحتياطي وتنفيذ قراراتها التحكيمية كقرارات قضائية وغيرها.
Arbitration in the Banking Operation.
Abstract
Could banks refer any litigation concerning theirs banking operation to Arbitration?
In general, banks prefer to have judicial system that apply clear rules and have a well established jurisprudence.
Nevertheless, in emerging economy, banks suffer from the lack of understanding of the judicial system of the banks operations. The specificity of the banking contracts are disregarded by judges. Moreover, the Islamic banks systems are totally ignored.
To avoid the risk of the legal and judicial system in the countries of emerging economy, Arbitration becomes a necessity. Then, the advantages of the arbitration should be kept and solutions to disadvantages should be found. The solutions are at three levels: drafting arbitration clause, establishing an institution of arbitration within the Central Bank and given the arbitration awards the same effect of judicial judgments.
التحكيم في العمليات المصرفية في الدول ذات الاقتصاد المتحول.
مقدمة :
مع بداية القرن الحادي والعشرين انتقلت سورية من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، وأحد مظاهر هذا التحول تمثل بفتح السوق السورية المصرفية للقطاع الخاص حيث صدر في عام 2001 القانون رقم 28 تاريخ 16/4/2001 الذي سمح بتأسيس مصارف خاصة في سورية، وترافق معه القانون رقم /29/ تاريخ 16/4/2001المتعلق بالسرية المصرفية والذي عدل بموجب المرسوم التشريعي رقم /34/ تاريخ 1/5/2005وتلاه المرسوم التشريعي رقم /35/ تاريخ 4/5/ 2005 لعام 2005 الذي سمح بإحداث مصارف إسلامية.
تهافتت المصارف العربية إلى سورية وكان أحد المخاطر الرئيسية لديها المركز القانوني والقضائي للمصرف في سورية بعد غياب العمل المصرفي الحر عنها لمدة تقارب الـ 40 عاماً.
هذه المخاطر تمثلت في كيفية تجاوز الصعوبات القانونية العديدة وأهمهما:
- ضرائب مرتفعة.
- رسم طابع مرتفع نسبياً.
- نظام محاسبي مغيب.
- تدقيق حسابات ضعيف.
- قانون ينتمي إلى المدرسة الفرنسية التي تحمي المدين.
- قضاء غير خبير بالخلافات المصرفية وندرة في الاجتهادات.
- قضاء لم يتم إعداده علمياً وعملياً على خصائص العمليات المصرفية وعلى فهم السوق المصرفية.
- جهل في العمل المصرفي الإسلامي وآلياته.
إضافة إلى عدد آخر من المصاعب التي ترفع من نسبة مخاطر العمل المصرفي وبالتالي إلى ضعف العروض المصرفية وانكماش في التنافس .... الخ.
لذلك بدأت المصارف، المعروف عنها عدم حبها للتحكيم بسبب مآخذ عديدة عليه، تطرح السؤال التالي : هل يمكن تجاوز بعض هذه المخاطر القانونية القضائية باللجوء إلى التحكيم ؟
الجواب على هذا السؤال يستدعي البحث في ماهية العمل المصرفي على مستوى العلاقة بين البنك والعميل (أولاً) قبل تناول ضرورة اللجوء إلى التحكيم كمرحلة لابد منها في الدول ذات الاقتصاد المتحول (ثانياً) آخذين سورية كمثال عملي وعلمي بخاصة وأنها بلد له تاريخ عريق في القانون والقضاء ومتميز بالموارد البشرية إلا أنه مغّيب عن العمل المصرفي الحديث.
أولاً – ماهية العمليات المصرفية:
تحكم العمل المصرفي مجموعة من القواعد القانونية الموجودة في عدد من القوانين مثل القانون المدني والقانون التجاري وقانون العقوبات وقانون السرية المصرفية وقانون تبييض الأموال ومكافحة الإرهاب إضافة إلى أعراف مصرفية مستقرة وتعليمات تصدر عن المصرف المركزي واتحاد المصارف ... الخ.
أمام هذا التنوع في مصادر القوانين المطبقة على العمليات المصرفية، أخذت مجموعة من الفقهاء تبحث في إيجاد قواعد قانونية تهتم بالعمليات المصرفية بحد ذاتها نظراً لخاصيتها (1) ونظراً للتطبيقات القضائية الخاطئة (2).
1- خصائص القواعد القانونية المصرفية:
للعمليات المصرفية ميزات لا توجد في غيرها من الأنشطة التجارية. لذا لابد من تحديد مفهوم العمليات المصرفية قبل تناول خصائصها واحتياجاتها القضائية الخاصة.
أ – مفهوم العمليات المصرفية:
هل يوجد تعريف واضح وشامل لها ؟ هل عمل المصارف مستقر منذ أمد أم أن الصناعة المصرفية بتطور مستمر ؟
البحث عن تعريف قانوني شامل للعمليات المصرفية عمل غير مضمون النتائج بخاصة وأن الصناعة المصرفية كنشاط اقتصادي في تطور مستمر والابتكارات المصرفية مستمرة من يوم إلى آخر. فماهو المقصود بالعمليات المصرفية.
1ً- تقليدياً:
في مدرسة السوابق القانونية Common Law عدد من الاجتهادات التي حاولت تعريف العمليات المصرفية والمصارف أكثر هذه التعاريف دقة هو التعريف الذي قدمه اللورد ديننغ Lord Denning في الدعوى التي قامت بين
United Dominions Trust Ltd. Vs Kirkwood حيث ذهبت المحكمة إلى تحديد الصفات الواضحة للعمل المصرفي التقليدي بقولها : "توجد صفتان عادةً في المصارف حالياً –i- تقبل المصارف الأموال من وتدفع الشيكات للعملاء وتضعها في الاعتمادات الممنوحة لهم –ii- يسددون قيمة الشيكات أو أوامر الدفع المسحوبة عليهم من قبل عملائهم ..... هاتان الصفتان تحملان معهما صفة أخرى تتمثل في مسك الحسابات الجارية أو ما يشابهها في دفاترهم حيث يتم تسجيل الدفعات الداخلة والخارجة من الحساب .
أما في القانون الفرنسي، فقد عرفت المادة الأولى من القانون الصادر بتاريخ 13/6/1941 المصارف بأنها الشركات والمؤسسات التي تتخذ مهنة لها إيداع الأموال للجمهور واستخدام الأموال لحسابات الغير في عمليات قطع ومنح قروض عمليات مالية" .
أما في الفقه فقد تم تعريف "المصرفي" من قبل الفقيهين الفرنسيين Roblot et Ripert كما يأتي: "المصرفي هو تاجر يضارب على الأموال وعلى القروض وهو لا يساهم بشكل مباشر بإنتاج أو توزيع أو انتقال الثروات ولكن يساعد الصناعيين والتجار في استثماراتهم"
مما تقدم نستنتج أن عمل المصارف تقليدياً يقوم على:
- الحصول على مال من الجمهور.
- إقراض المال للغير.
- تنفيذ أوامر الدفع من شيكات وحوالات وغيرها.
2ً- حديثاً :
الأعمال التقليدية الثلاثة للمصارف التجارية (والتي تدعى بالعامية مصارف المفرق) كانت بعيدة في سوق لندن (أكبر أسواق المصارف بالعالم) عن مصارف الاستثمار التي تعمل في التجارة الدولية وتقوم بتمويل المشاريع وتمنح الضمانات المصرفية للحكومات وغيرها.
في الثمانينات من القرن الماضي بدأت المصارف في مختلف أرجاء العالم وتحت ضغط المصارف الكبرى الأمريكية واليابانية تتأثر بالمدرسة الألمانية ، حيث نشطت منذ القرن التاسع عشر المصارف الشاملة وبدأت المصارف في كل أوروبا بتقديم خدمات مصرفية شاملة تشمل العمليات التقليدية وتمويل المشاريع وإقراض الدول واتحاد عدد من المصارف لعملية إقراض كبيرة Syndicated loan حتى أنها بدأت بتقديم خدمات التامين إلى جانب الضمانات المالية للحكومات وغيرها من الشركات الكبرى.
هنا بدأت مشكلة تعريف المصرف والعمليات المصرفية حيث أصبح إيجاد تعريف شامل جامع يميز العمليات المصرفية عن غيرها من العمليات المالية والتمويلية ... الخ. عمل شائك وبالغ الصعوبة بصفة عامة يمكن القول أن البنوك الشاملة هي البنوك التي لم تعد تنفيذ بالتخصص التقليدي للأعمال المصرفية " بل أصبحت تحد نشاطها إلى كل المجالات والأقاليم والمناطق وتحصل على الأموال من مصادر متعددة" ومنها أعمال الاستثمار هذا التعريف الفقهي لم يجد له أثراً في القانون الوضعي حيث لجأت القوانين الحديثة إلى تعداد العمليات المصرفية (القانون السوري رقم 28 لعام 2001) أو إلى تعريف المصرف على أنه الشخصية الاعتبارية التي تعترف لها السلطة المعنّية بالصفة المصرفية . أي أن القوانين الوضعية فشلت في إعطاء تعريف جامع شامل مميز وموضوعي للمصارف والعمليات المصرفية.
ب- خصائص العمليات المصرفية:
أمام ضعف التعريف أصبح من الضروري تحديد ميزات العمليات المصرفية والتي يمكن جمعها بالتالي:
1ً- الصفة التجارية،فأغلب، إن لم يكن كل، دول العالم منحت العمليات المصرفية الصفة التجارية بحكم ماهيتها بغض النظر عن القائم بها (المادة 6/د من قانون التجارة السوري).
2ً- أنها ذات صفة تقنية تنظم الإجراءات المتبعة وتستخدم مصطلحات استقرت بالعمل المصرفي، هي ذات معان قد لا تتفق والمعنى اللغوي رغم أنها تفي بالأغراض التي توضح إرادة أطرافها بالموضوع المتفق عليه، عملاً بالقاعدة " العبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني".
3ً- إتباع البنوك من حيث الموضوع أسلوباً واضحاً في النماذج المصرفية كالعقود وغيرها من حيث الشكل والموضوع بحيث تكون العلاقة واضحة بين أطراف التعامل بعيدة عن اللبس والغموض وتصاغ بطريقة يسهل تفسير شروطها وتوضح ما يصبو إليه أطرافها في تعاملهم بطريقة قانونية مبنية على النظم التجارية والأعراف والعادات.
أما من حيث الشكل فلها شكل خاص تتبعه كافة المصارف ذات آثار خاصة كالتعامل بالأوراق التجارية وغيرها.
4ً- تعتمد كافة البنوك في نماذجها على أسلوب موحد قد يصفها البعض بأنها عقود إذعان رغم توضيحها لحقوق وواجبات كل من البنك وعملائه.
تأسيساً على الأسلوب الموحد لكافة النماذج ولعدم قيام البنوك بتعديل شروطها بالإضافة لحاجة العملاء السريعة لإتمام التعامل يتم توقيع العملاء لهذه النماذج دون دراسة الشروط أو الدراية بتفاصيلها.
5ً- تتميز القوانين المصرفية بأنظمة موحدة على المستوى الدولي كالاعتمادات والكفالات وبوالص التحصيل والنقل وغيرها مما يتعلق بالتجارة الخارجية بحيث لا تعطي العميل المجال لتغيير أو تعديل نصوصها المطبوعة لأنها نظم عالمية مقننة بواسطة مشرعي غرفة التجارة الدولية وتطبق بين كافة الدول العربية والأجنبية.
6ً- إن العمليات المصرفية تقوم دائماً على الاعتبار الشخصي أي على ثقة أطرافها ( أو هذا هو المفروض) وهذا يسهل العمليات. فالبنك ينظر إلى أخلاق عميله ومركزه المالي ليطمئن في تعامله معه كما أن الاعتبار الشخصي الذي ينتظره العميل من البنك هو نوع العمل والخدمة وحسن المعاملة والسرعة التي تختلف من بنك لآخر.
ونظراً لأهمية هذه الخصائص قامت بعض القوانين التجارية للدول العربية بتقنين العرف المصرفي بالإضافة للقرارات الهامة الناشئة عن اتحادات المصارف التي أصبحت مع الزمن مستقرة وقاعدة يستند إليها بكافة النزاعات في غياب التشريع الخاص بدلاً من أحكام القانون المدني أو التجاري.
ج- قواعد خاصة لتطبيق القانون المصرفي:
بالرغم من الخصائص المتقدمة للقواعد القانونية المصرفية وللعمليات المصرفية فإن هذه العمليات تخضع بحسب الأصل – للقواعد القانونية العامة – سواء في إبرامها أو في إثباتها أو تفسيرها، ولكن ظروفاً خاصة طوعت هذه القواعد بحيث جعلت لتطبيقها هنا أسلوباًَ خاصاً نذكر أهمها هنا.
1ً – في إبرام العقود المصرفية:
إن العقود المصرفية تنعقد بالتراضي شأنها شأن كل عقد أخر، يلزم فيه رضى البنك ورضى العميل. ويلاحظ في هذا السياق أن الإعلانات التي يذيعها البنك لا تعتبر إيجاباً بل مجرد دعوة للتفاوض بهدف التعاقد، ذلك أن العقود المصرفية ملحوظ فيها الاعتبار الشخصي وأن عبارة الإعلان تكون غير محددة بحيث أنها لا تعني كل عناصر التعاقد، وإنما قد يعتبر إيجاباً من البنك المطبوعات التي يقدمها للعملاء متضمنة عناصر التعاقد تفصيلاً.
ويكون رضى العميل غالباً بمجرد الموافقة على النموذج الذي يحرره البنك، ولذا يراه الشراح إذعاناً لتعذر مناقشة الشروط الجوهرية في العقد ولكونها تتشابه بين بنك وآخر، ولكون التعامل مع البنوك أصبح لا غنى عنه في الحياة الحديثة بل انه كثيراً ما يوقع العميل على بيان يفيد أنه اطلع على شروط معينة وأنه قبلها في حين انه لم يطلع عليها فعلاً أو أنه لم يفهم المراد منها ، وكثيراً ما يكون رضى العميل مستفاداً من مجرد تنفيذه التزامه الناشئ من العقد.
لابد لنا من وقفة هنا مع اعتبار العقود المصرفية عقود إذعان، أن مثل هذا القول على إطلاقه فيه الكثير من الإجحاف، وهو صحيح في بعض أنواع العقود وفي بعض الدول، ولكن في دول أخرى حيث هناك عدد كبير من المصارف المتنافسة والتي تعمل بأساليب مختلفة، فإنه لم يعد صحيحاً القول بأن الخدمة المقدمة واحدة ومتطابقة لدى جميع المصارف.
وقد ذهبت محكمة النقض المصرية إلى أن عقد فتح الاعتماد لا يعتبر من عقود الإذعان .
2ً- إثبات العمليات المصرفية:
الأصل أن تثبت الأعمال المصرفية – بوصفها أعمالاً تجارية بكافة طرق الإثبات، ومع ذلك فاللجوء إلى الشهادة أو حلف اليمين أمر نادر. والغالب أن يحصل الإثبات من خلال النماذج المطبوعة التي يوقعها البنك والعميل، أو بالقيود التي تحصل في حساب العميل وترد في الكشوف الحسابية التي ترسل إليه دورياً، وقد يكون لبعض القيود قوة القرينة على وجود تصرف معين كاقتضاء البنك فوائد عما قدمه للعميل، فهو يفيد في إثبات القرض مثلاً . هناك بعض التصرفات لاتثبت إلا بشكل معين، ومن ذلك التصرفات التي ترد على الأسناد التجارية - (التظهير مثلاً يحتاج إلى الكتابة).
3ً- تفسير العمليات المصرفية:
يخضع تفسير العمليات للقواعد العامة المتبعة في تفسير الأعمال القانونية لكن مع مراعاة ظروف إبرام هذه العمليات والأهداف الاقتصادية المقصودة فيها، وهو ما قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى جعل عملية التفسير هنا أصعب من تفسير العقود المدنية وتفصيل ذلك أن إرادة الطرفين قد لا تتفق مع الأسلوب أو الإطار الذي اتخذه الطرفان للوصول إلى هدفهما من العملية، فيكون ثمة محل للموافقة بين الأثر الذي اتجهت إليه الإرادة والأثر الذي ينتهي إليه الأسلوب الذي أفرغت فيه الإرادة، وهو أثر قد يفرضه الأسلوب المتخذ وان كان أحد الطرفين لم يكن يريده، لهذا نرى أن القضاء كثيراً ما يستعين بالعادة المصرفية وظروف إبرام العقود والهدف الاقتصادي الذي يستهدفه الطرفان للوصول إلى التكييف الصحيح للعمل، وبالتالي تحديد أثاره طبقاً للقواعد القانونية التي يجب أن تحكمه.
كذلك يجد القضاء صعوبة في تفسير العمل عندما يكون أمام حلقات متتابعة تنفيذاً لعملية واحدة تشارك في تنفيذها عقود متعددة فيضطر في مجموع هذه العقود لتفسير كل منها على حدة مع تقديره لوحدة الهدف الاقتصادي. (كما في الاعتماد المستندي).
فالقاضي ينظر إلى التزام البنك ويحدد مداه في نطاق عقد فتح الاعتماد وفي شروط هذا الاعتماد الصادر عن البنك، كما يقدر مدى التزام كل من الأطراف دون أن يغفل التزامات الأطراف الأخرى، رغم أن كلاً من هذه العلاقات تكون من الناحية القانونية مستقلة عن بعضها البعض.
لذلك نستطيع القول أن تعدد عمليات البنوك وتعقدها وظروف نشأتها والأسلوب الذي يتخذ لتحقيق الأهداف المطلوبة منها يجعل تكييف هذه العمليات وتفسيرها مختلفاً من حيث الروح التي تسيطر على القاضي فيها والاعتبارات التي عليه احترامها، وإن لم يجعل هذا التفسير مختلفاً قانونياً عما هو متتابع بالنسبة لأعمال القانون المدني وذلك عملاً بأحكام المادة 409 من قانون التجارة السوري والتي تنص على أن " العمليات المصرفية غير المذكورة في هذا الباب تخضع لأحكام القانون المدني الخاصة بالعقود المختلفة الناجمة عن العمليات المذكورة أو العقود التي تتصف بها هذه العمليات ".
على أن العقد في القوانين الوضعية في سوريا وفي الاجتهادات التطبيقية لتفسير العقود والعمليات المصرفية يجعلنا نتبنى ما ذهب إليه الأستاذان Ripert و Roblot وبخاصة لجهة إلزام القاضي بالنظر أولاً في الإرادة المشتركة للطرفين، سواء في تكييف العقد أو في تحديد مضمونه، وثانياً بإعادة النظر في اتفاق الطرفين لملاءمته مع الهدف الاقتصادي المطلوب من العقد ويفترض عندئذ أنهما قبلا كل الآثار المعتادة التي تقررها العادات المصرفية للأداة التي استخدماها كما يراعي أن ثمة أدوات ترتب أثاراً خاصة وحتمية كالأسناد التجارية وهذه الآثار تتداخل مع ما أراده الطرفان.
2- في الصعوبات التطبيقية أمام القضاء:
أظهرت الخبرة العملية أن القضاء في دول ذات الاقتصاد المتحول عانت من صعوبات جمة في فهم العمليات المصرفية الحديثة وتجلّت هذه الصعوبات في ثلاثة مظاهر مهمة تتعلق في تطبيق خصائص العمل المصرفي وفي مفهوم الفائدة وفي العمليات المصرفية الإسلامية.
أ – صعوبات في تطبيق الخصائص المصرفية:
مثالان عمليان يتعلقان بالكفالة المصرفية والاعتماد المستندي إضافة إلى قواعد الإثبات في العمليات المصرفية.
1ً- في التفسير:
لجأت بعض المحاكم السورية عند النظر بدعوى تتعلق باعتماد مستندي إلى ربط عقد الاعتماد بعقد التوريد أو البيع الذي فتح من أجله علماً بأن المادة /3/ من القواعد الموحدة للاعتمادات المستندية 500 والتي تطبق في جميع دول العالم تنص على استقلال الاعتماد المستندي عن أي عقد آخر تم فتح الاعتماد من أجله مما أربك المتخاصمين في بعض الأحيان.
والسؤال الذي طرح نفسه أمام القضاء يتعلق بالتكييف القانوني للقواعد الموحدة للاعتماد المستندي فهي ليست باتفاقية دولية لكنها مطبقة من الغالبية العظمى المصارف في دول العالم إن لم تكن جميعها.
لذلك يمكن تكييف القواعد الموحدة للاعتماد المستندي على أنها عرف دولي خاص بالاعتمادات المستندية والعرف التجاري وفقاً للمادة /4/من قانون التجارة السوري واجب التطبيق عند تحديد آثار العمل التجاري حيث نصت المادة 4/أ على ما يأتي: "على القاضي، عند تحديد آثار العمل التجاري، أن يطبق العرف المتوطد ...". ومع ذلك كانت هنالك تطبيقات خاطئة للاعتمادات المستندية وتفسيرها.
2ً- في الإثبات:
العمليات المصرفية التي تعتمد على التقنيات الحديثة مثل إرسال الحوالات عبر الرسائل القصيرة بالهاتف الجوال والحوالات عبر السويفت تعاني من مشاكل الإثبات بخاصة وأن النقاش دار مع عدد من القضاة المترأسين للغرف التي تبت بالخلافات التجارية حيث نشأ خلاف حاد حول إمكانية الاتفاق على قواعد إثبات غير واردة في قانون البينات السوري. فالبعض وافق على إمكانية اتفاق أطراف علاقة تعاقدية حول إثبات تنفيذ التزاماتهم بسجلات إلكترونية بالرغم من عدم صدور قانون المعاملات الإلكترونية والبعض الآخر أصر على عدم جواز إيجاد وسائل إثبات جديدة لم ينص عليها قانون البينات وبالتالي لابد بهكذا نوع من العمليات المصرفية من اللجوء إلى الخبرة.
اللجوء إلى الخبرة لا يمكن أن يكون مصدر استقرار قضائي لأن المادة /155/ من قانون البينات تنص على أن "رأي الخبير لا يقيد المحكمة".
وبالتالي يمكن للقاضي الخروج عنه مما يؤدي إلى صعوبة الركون إلى الخبرة في إثبات عدد من العمليات المصرفية.
ب- في الفائدة :
مفهوم الفائدة والفائدة المصرفية مازال غير واضح المعالم في القضاء السوري وفقاً لما يأتي:
1ً- الفائدة في القانون:
توافقاً مع الشريعة الإسلامية التي منعت الفائدةجاءت المادة /227/ من القانون المدني لتلزم المدين المتأخر بتسديد دينه بدفع فائدة على سبيل التعويض مقدارها 4% بالدين المدني و5% بالدين التجاري.
وسمحت المادة /228/ من القانون المدني للأطراف المتعاقدة الاتفاق على مقدار فائدة لا يتجاوز مقدارها الـ 9% ودائماً ضمن مفهوم الفائدة على سبيل التعويض.
أجازت المادة /232/ المطالبة بتعويض تكميلي إذا أثبت الدائن أن الضرر الذي يجاوز الفائدة قد تسبب فيه المدين بسوء نية.
وبالتالي لا يجوز التعويض بأكثر من 9% من مقدار الدين كفائدة ما لم يثبت وجود ضرر إضافي إضافة إلى سوء نية المدين وقد استقر الاجتهاد على اعتبار حد الـ 9% من النظام العام الذي لا يجوز تجاوزه،لكن ما هو وضع الفائدة المصرفية.
2ً- الفائدة المصرفية:
نصت المادة 234 من القانون المدني على أن الفوائد التجارية التي تسري على الحساب الجاري يختلف نعدلها باختلاف الجهات ويتبع في طريقة حساب الفوائد المركبة في الحساب الجاري ما يقضي به العرف التجاري. هذه المادة تم تفسيرها بشكل ضيق للحسابات الجارية فقط مما استدعى صدور قانون خاص بتاريخ 2/4/1988( تحت ظل اقتصاد موجه) برقم /17/ أجاز تحديد معدلات الفوائد في جميع العمليات المصرفية الدائنة والمدينة بما يتجاوز الحد الأقصى المنصوص عليه في المادة /228/ من القانون المدني وترك أمر تحديد معدل الفوائد لمصرف سورية المركزي مجلس النقد والتسليف.
كما صدر عن محكمة النقض (الغرفة الجزائية) في معرض البت بدعاوى جزائية أساسها القانوني " جرم المراباة" الذي يعاقب عليه بموجب المادة /647/ وما يليها من قانون العقوبات اجتهادات نصت على أن " القرض المالي لغاية تجارية لا يؤلف قرضاً ربوياً ولو تجاوزت الفائدة المشترطة فيه الحد القانوني" حيث كانت الفائدة في هذه الدعوى 11%.
وفي دعوى أخرى كانت الفائدة 12% عطفت محكمة النقض على اجتهادها السابق.
بالرغم من وجود هذا النص، لجأت المحاكم المدنية الناظرة في النزاعات التجارية إلى إجراء الخبرة في كل دعوى يزعم فيها المدعى عليه المدين للمصرف بأن الفائدة المطبقة من قبل المصرف هي فائدة فاحشة بهدف تخفيض معدل الفائدة إلى 9% (والتي وردت كتعويض وليس كفائدة مصرفية).
يتضح مما سبق أن المحاكم التجارية لاتزال تطبق المادة /228/ من القانون المدني المتعلقة بالفائدة التعويضية وليس بالفائدة المصرفية على الرغم من صدور القانون رقم /17/ لعام 1988 وعلى الرغم من وجود اجتهادات لا تعتبر الفائدة التي حصلت إلى 12% ربا فاحشاً.
هذا التطبيق يقلق المصارف لجهة عدم الأخذ بنص قانوني صريح ولجهة حدود الفائدة التي تشكل ربا فاحشاً لأن الاجتهاد اعتبر أن نسبة 12% لا تشكل ربا فاحش لكنه لم يبين ما هي الفائدة التي تعتبر ربا فاحشاً هل هي 15% أكثر أم أقل ؟!!
3ً- الفائدة والعملة المتداولة:
في عدد من القضايا المصرفية الدولية، المدعي كان مصرفاً أجنبياً (لبنانياً أو فرنسياً أو قبرصياً) والمدعى عليه مقترض سوري امتنع عن تسديد دينه، فلجأ المصرف الأجنبي إلى القضاء السوري ظناً منه أن صدور قرار محلي أسهل بالتنفيذ من تنفيذ قرار صادر عن محاكم أجنبية.
أثناء المرافعة اصطدم المصرف بمفهوم الفائدة في سورية وكونها من النظام العام علماً بان القرض منح بالعملة الأجنبية ووفقاً لقانون أجنبي.
فهل اللجوء إلى القضاء السوري ينسف عقداً أبرم وفقاً لقانون دولة أخرى ؟
أكثر من ذلك، هل يمكن تطبيق مفهوم الفائدة المصرفية في سورية على قرض صدر بعملة أجنبية حيث أن نسبة التضخم تتجاوز الـ 15% ؟
لبيان مدى توافق هذا الأمر مع العرف التجاري، نعطي المثال التالي:
- حصل شخص على قرض من مصرف ياباني وبالين الياباني حيث نسبة الفائدة المحددة من المصرف المركزي لا تتجاوز مثلاً الـ 3%، فلو طبقنا معدل الفائدة التعويضية في سورية وهي حسب المادة /228/ 9% فيكون المصرف المقرض قد حصل على ثلاثة أضعاف حدود الفائدة المصرفية دون أن يعتبر ذلك ربا.
وبالمقابل لو كان القرض صادراً عن مصرف أرجنتيني حيث معدل الفائدة المصرفية 14%، فيكون هذا القرض (بغض النظر عن نسبة التضخم) مخالف للنظام العام ولحدود الفائدة في سورية.
هذا التطبيق الأعمى لمعدل الفائدة بغض النظر عن القانون الواجب التطبيق على القرض المصرفي وبغض النظر عن العملة المتعامل بها يخالف أحكام المادة /4/ من قانون التجارة التي تلزم القاضي بتطبيق العرف التجاري.
ج- في العمليات المصرفية الإسلامية:
1ً- حداثة القانون :
صدر بتاريخ 4/5/2005 المرسوم التشريعي رقم /35/ الذي سمح بتأسيس مصارف إسلامية لا تعمل على الفائدة والزم القانون هذه المصارف باتخاذ هيئة مرجعية دينية للقيام بأعمالها المصرفية.
تأسس أول مصرف إسلامي في سوريا بدمشق وباشر أعماله في نهاية 2007.
أي أن الشارع السوري وبالتالي القضاء السوري لا يعرف عن المصارف الإسلامية أي شيء بخاصة وأنه بدأ تدريس التمويل الإسلامي والمصارف الإسلامية لطلاب الماجستير بكلية الحقوق بجامعة دمشق في عام 2006.
هذه الحداثة في العمل المصرفي الإسلامي يزيد من المخاطر القانونية المصرفية ويؤدي على انكماش العمل المصرفي الإسلامي بخاصة وأن السوابق القضائية لمصارف إسلامية أجنبية كانت غير مشجعة.
2ً- في عدم فهم عمليات المصارف الإسلامية:
نذكر هنا مثالين على عدم قدرة القضاء في فهم عمليات المصارف الإسلامية الأول عندما حاول احد المصارف الإسلامية الخليجية توريق الدين الممنوح لأحد السوريين، فعمد القاضي إلى عرض المشكلة أمامه بطريقتين:
- الطريقة الأولى الربط بين الدين الأصلي قبل توريقه وبين الدين بعد توريقه دون فهم سبب التوريق بالمصرف الإسلامي.
- الطريقة الثانية عدم الربط بينهما وبالتالي مضاعفة مقدار الدين حيث يمكن للمصرف الإسلامي المطالبة بالدين وبالسندات الصادرة به.
المثال الثاني كان عندما مول أحد المصارف الإسلامية اعتماداً لاستيراد السيارات.
حيث ترد البوالص والمستندات باسم المصرف الذي يظهرها للعميل (وفقاً لقواعد عمل المصارف الإسلامية
وقد استلم العميل السيارات وامتنع عن سداد الدين فرفع المصرف الإسلامي الدعوى وطلب إلقاء الحجز الاحتياطي على أموال العميل فرفض القاضي ذلك بحجة أن السيارات وصلت إلى سورية باسم المصرف الإسلامي وفقاً للمستندات التي سلمها للعميل بالتظهير وبالتالي "فالمستورد لم يكن العميل والاعتماد لم يفتح باسمه.
شرح عملية تمويل التجارة الدولية للقاضي الناظر في النزاع أخذت بعض الوقت حيث استطاع العميل بيع السيارات للعراق قبل إلقاء الحجز عليها.
هذا التطبيق العملي يظهر صعوبة حماية العمليات المصرفية الإسلامية أمام القضاء مما يستدعي البحث عن حلول بديلة.
ثانياً – ضرورة التحكيم في العمليات المصرفية:
التحكيم عبارة عن إجراء بديل للتقاضي وليس للمحكمين سلطات القضاء فكيف يمكن للمصارف الركون إليه كبديل أفضل من القضاء للتخفيف من مخاطرهم القضائية والقانونية.
هذا الأمر يستدعي البحث في وميزات وسيئات التحكيم قبل تناول كيفية تجاوز الصعوبات.
1- إيجابيات وسلبيات التحكيم:
للبحث بالإيجابيات والسلبيات يجب دراسة الطبيعة القانونية للتحكيم وميزاته بالنسبة للقضاء وأهم سلبياته الواجب تجاوزها.
أ- التحكيم نظام فصائي خاص:
هنالك أكثر من عشرات التعاريف للتحكيم تجمع جميعها على أن التحكيم عبارة عن طريقة لحل النزاعات بحيث يتفق المتنازعون على عرض نزاعهم على شخص أو محكمة مستقلة لإصدار قرار ملزم لهم.
ويختلف التحكيم بذلك عن القضاء بأنه اتفاقي أي أن أساسه القانوني هو اتفاق الأطراف سواء عند توقيع العقد أو عند نشوء النزاع.
إلا أن هذا الأساس القانوني الاتفاقي لا يتم على نوع واحد من التحكيم فهنالك تقسيمات عديدة له(1) وهذه التقسيمات لاتغير من طبيعته القانونية التي لابد من دراستها (2).
1ً - أنواع التحكيم:
يقسم التحكيم حسب موضوعه إلى عدة أنواع: البحري والبناء والتجاري المحض والمواد الأولية والتأمين والملكية الفكرية... الخ. وبعض أنواع التحكيم له نظام خاص بها، فالتحكيم بخصوص عقود البناء يخضع لنظام الـ FIDIC . كما يقسم حسب طبيعة أطراف التحكيم إلى تحكيم خاص وتحكيم هيئات القطاع العام وبهذا الصدد يوجد هنالك المحكمة التحكيمية و الدائمة في لاهاي.
على أن أهم أنواع التحكيم يقسم إما حسب الجنسية إلى تحكيم وطني أو دولي أو حسب إجراءات التحكيم والسلطة المشرفة عليه حيث يقسم إلى تحكيم مؤسساتي وتحكيم توافقي.
– التحكيم الوطني والدولي:
يقول البعض أن التحكيم هو دائماً وطني لأنه يتم في مكان ما بمدينة معينة كائنة في دولة ما وبالتالي فإن له الطابع الوطني لهذه الدولة . مثل هذه المقولة تستحق المناقشة ولكن الواقع العملي يمّيز بين التحكيم الوطني والدولي لعدة أسباب أهمها أن التحكيم غير مرتبط بالمكان الذي يتم فيه وان الأطراف التي غالباً ما تلجأ للتحكيم هي شركات خاصة أو مؤسسات قطاع عام وليسوا أفراداً طبيعيين.
وللتمييز بين التحكيم الوطني والدولي أسباب عدة أولها هو رغبة المتحاكمين بعدم تدخل المحكمة الوطنية بإجراءات التحكيم إذ غالباً ما يسمح القانون الوطني للقضاء بالتدخل في التحكيم الوطني. لهذا السبب تبنت عدة دول ومنها فرنسا وسويسرا نظاماً قانونياً خاصاً للتحكيم الدولي دون التحكيم الداخلي .
سبب أخر للتمييز هو أن بعض الدول ترفض التحكيم لحل النزاعات فيما إذا كانت الدولة نفسها أو أحد أشخاص القطاع العام طرفاً فيه إلا إذا كان تحكيماً دولياً وفي مجالات معينة.
أحد أهم أسباب التمييز هو أن التحكيم الدولي يجمع غالباً في طيا ته جنسيات ونظماً قانونية ومبادئ مختلفة ويجب على أعضاء المحكمة التحكيمية أخذها بعين الاعتبار.
أخر هذه الأسباب يتعلق بالطرق المختلفة لتنفيذ أحكام المحكمين حيث أن قرارات التحكيم الداخلية تكتسب صيغة التنفيذ بطرق وعلى أسس قانونية مختلفة عن تلك الدولية. هذه الأخيرة تنظم الاعتراف بها وتنفيذها اتفاقيات دولية أهمها اتفاقية نيويورك لعام 1958 للاعتراف وتنفيذ القرارات التحكيمية الأجنبية والدولية.
بعد بيان الأسباب لابد من معرفة المعايير التي يتم وفقها التمييز بين التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي. لا يوجد في الواقع معايير معترف بها في جميع أنحاء العالم ولكن هنالك معياران أساسيان مستعملان حالياً لبيان دولية التحكيم.
المعيار الأول يعتمد على طبيعة النزاع – إذا كان النزاع دولياً كان التحكيم دولياً. فالمادة الأولى من قواعد التحكيم المعتمدة في محكمة التحكيم الدولية لغرفة التجارة الدولية ICC ذهبت إلى اعتماد هذا المعيار. وكذلك ذهب القانون الفرنسي للتحكيم الدولي الصادر عام 1982 إلى هذا المفهوم الواسع للتحكيم الدولي معتمداً على دولية النزاع. والنزاع يكون دولياً وفق أحد المعيارين التاليين الأول اقتصادي وهو وجود مصالح أو تأثير النزاع في التجارة الدولية ، والثاني قانوني ويذهب إلى أن أي نزاع أو عقد يمكن أن تطبق عليه قوانين عدة دول، يعتبر العقد أو النزاع الناتج عنه دولياً.
المعيار الثاني يتعلق بجنسية أو مكان إقامة أو مكان ممارسة إدارة أو أعمال أطراف النزاع. هذا ما اعتمده القانون السويسري الذي ذهب إلى اعتبار التحكيم دولياً فيما إذا كان الأطراف من جنسيات مختلفة أو في أماكن إقامة مختلفة عند توقيع اتفاقية التحكيم.
هذا الاختلاف بين القوانين دفع بالنموذج القانوني عن التحكيم الصادر عن UNCITRAL إلى اعتماد المعيارين السابقين أو أحدهما.
من الواضح إذاً أن اختلاف المعايير وما يمكن اعتباره تحكيماً دولياً في دولة ما يمكن اعتباره داخلياً في دولة أخرى أي أن معيار الدولية ليس عالمياً وبالتالي إذا ما أثير السؤال حول دولية نزاع تحكيمي ما فالجواب يوجد في القانون الوطني لكل دولة.
– التحكيم المؤسساتي والتحكيم التوافقي (ad hoc):
بمجرد أن يختار المتعاقدون أو المتنازعون التحكيم لحل نزاعاتهم يجب عليهم تحديد المؤسسة أو الهيئة التي تنظر في حل نزاعهم أو طريقة التحكيم فيما إذا لم يختاروا تحكيماً مؤسساتياً.
فالتحكيم التوافقي يتم وفق أصول قانون الإجراءات، الذي تم اختياره من قبل المتعاقدين. وقانون الإجراءات يمكن أن يحدد من قبل دولة ما أو من قبل منظمة تجارية داخلية أو دولية أو منظمة غير تجارية دولية UNCITRAL . كما يمكن إجراء التحكيم وفق أصول يحددها الأطراف أو المحكمة التحكيمية أو مجموع هؤلاء.
وباختصار فإن التحكيم التوافقي يشبه تفصيل بدلة لدى الخياط تتناسب تماماً ومقاسات طالبها، أي أنه على كاتبي شرط أو اتفاقية التحكيم تحديد كيفية اختيار المحكمين والقانون الواجب التطبيق ومكان التحكيم وإجراءات التحكيم.
وقد أظهر الواقع أن أغلب التحكيمات التجارية هو تحكيم توافقي وبخاصة عندما يكون أحد الأطراف المتحاكمة دولة أو شخص قطاع عام.
أما التحكيم المؤسساتي فهو تحكيم تتم إدارته من قبل إحدى هيئات التحكيم المختصة وفق قواعد التحكيم المعتمدة لديها. وهنالك العديد من هذه الهيئات المشهورة عالمياً منها:
- The American Arbitration Association.
- The International Center for the Settlement of Investment Disputes.
- The International Chamber of Commerce ICC.
- The London Court Of International Arbitration.
ولكل من هذين النظامين التحكيميين ميزاته وسيئاته. فما هي ميزات وسيئات كل منهما:
مّيزات وسيئات التحكيم المؤسساتي: أول هذه الميزات يتمثل عادة بوجود كتيب عن قواعد إجراءات التحكيم. ففي حال محاولة أحد الأطراف عدم البدء بإجراءات التحكيم أو الاستمرار بها فإن القواعد المعتمدة للهيئة تسمح باستمرار التحكيم وصدور قرار به يفصل النزاع. لابد هنا من الإشارة إلى دعوى تحكيمية كانت بين Euro Disney وأحد المتعهدين فقد نص الشرط التحكيمي على أن يسمي كل طرف محكمه خلال أسبوعين من بدء إجراءات التحكيم أمام محكمة التحكيم الدولية في غرفة التجارة الدولية ICC كما تضمن العقد أن القانون الواجب التطبيق هو القانون السويسري. وعند بدء إجراءات التحكيم تأخر المتعهد عن قصد في تسمية محكمه حيث سمّاه بعد مرور شهر على بدء إجراءات التحكيم. فما كان من Euro Disney إلا أن طلبت تعيينه من قبل الهيئة. وهنا وقعت محكمة التحكيم الدولية بمأزق كبير وهو إما أن ترفض محكم المتعهد لأن تسميته كانت متأخرة وتطبق قواعدها وتسمى محكماً عن المتعهد ويكون التحكيم باطلاً وفق القانون المطبق لأن القانون السويسري يعتبر التحكيم باطلاً فيما إذا تمت تسمية أحد المحكمين من قبل أحد الأطراف ولم يسمى المحكم الآخر من قبل الطرف الثاني، أو أن تعتمد المحكم المسمى من المتعهد بشكل متأخر ويصبح التحكيم مشوباً بالبطلان أيضاً لمخالفته نص لشرط التحكيم. وبذلك نجح المتعهد في تعطيل إجراءات التحكيم. الميزة الثانية للتحكيم المؤسساتي تتعلق بتقديم جهاز إداري خبير ومتدرب لإدارة الدعاوى التحكيمية سواء لجهة تعيين المحكمة التحكيمية أولد فع السلف أو لمتابعة الإجراءات.... الخ.
أما سيئات التحكيم المؤسساتي فتدور حول اتهامه بأنه مكلف وبخاصة في المؤسسات التي تأخذ نسبة من قيمة النزاع كما هو الحال في ICC . أن المدافعين عن التحكيم المؤسساتي يرون أن هذه النسبة في الدعاوى التحكيمية ذات القيمة الكبيرة لا تتجاوز 1% من قيمة النزاع وهو مبلغ ضئيل جداً بالنسبة للمتنازعين.
من المآخذ الأخرى على التحكيم المؤسساتي هو أنه يحتاج إلى وقت أكثر من التحكيم التوافقي كما أن برنامج التحكيم غير ملائم للأطراف حيث أن لدى المدعي الذي يحرك الدعوى متسع من الوقت لتحضير دعواه بينما يجد المدعى عليه نفسه ملزماً بتقديم دفوعه خلال فترة قصيرة نسبياً. فمثل هذه السيئة تثار كثيراً في منازعات عقود المقاولة حيث يوجد عدد هائل من الخرائط والوثائق والدراسات الواجب إعدادها لتقديم الدفاع .
كما أن تحديد الوقت من المشاكل الكبيرة التي تثار فيما إذا كان أحد المتخاصمين شخص قطاع عام حيث يحتاج إلى إجراءات روتينية طويلة ومعقدة لاتخاذ القرارات.
- ميزات وسيئات التحكيم التوافقي: إن التحكيم التوافقي يتم عند اتفاق الأطراف على التحكيم دون تحديد هيئة تحكيمية معينة أو العطف على قواعد أي من هذه الهيئات.
أهم ميزات التحكيم التوافقي أنه يتناسب مع رغبات الأطراف الذين يفصلونه وفق عقدهم ونزاعهم الحالي و المستقبلي ونجاح هذا النوع من التحكيم يحتاج إلى تعاون المتخاصمين ومستشاريهم في إنهاء مهمة التحكيم. وفي حال وجود هذا التعاون يصبح الفرق بين التحكيم المؤسساتي والتوافقي كالفرق بين شراء بذة جاهزة أو تفصيلها.
إلا أن وضع قواعد إجراءات التحكيم من قبل المتنازعين يتطلب وقتاً وجهداً كبيرين. لذلك غالباً ما يتم العطف على قواعد موجودة سابقاً. ( UNCITRAL Rules مثلاً).
هذا النوع من التحكيم كان المفضل في نزاعات عقود استثمار البترول.
كما أن من ميزات هذا التحكيم هو أنه أقل تكلفة من التحكيم المؤسساتي وبخاصة عندما يتعلق التحكيم بمبالغ كبيرة . كما أن وجود جهة قطاع عام في التحكيم وعدم رغبتها في الخضوع لإجراءات أية هيئة تحكيمية دولية تدفعها إلى القبول بالتحكيم التوافقي.
أما السيئات فهي عديدة أهمها أن نجاح هذا التحكيم يتوقف على رغبة الأطراف في نجاحه. ففي حال رفض أحد المتنازعين تعيين محكمه أو دفع سلفة التحكيم... أو امتنع أو عرقل أي إجراء آخر فلا توجد أية قواعد يمكن الاستعانة بها لنجاح التحكيم.
وقد أثبت الواقع العملي أنه بعد تعيين المحكمة التحكيمية وعند وجود قانون للإجراءات يتم اختياره لمتابعة إجراءات التحكيم، عندها فقط يسير التحكيم التوافقي بنفس درجة نجاح التحكيم المؤسساتي.
ب – الطبيعة القانونية للتحكيم:
يتميز التحكيم بخاصتين منفردتين الأولى أن له صفة قضائية والثانية أن أساسه اتفاقي.
1ً – الصفة القضائية للتحكيم:
أن أهم واجبات المحكم أو المحكمة التحكيمية هي الفصل في النزاع أي إعطاء قرار نهائي يتناول فيه جميع الدفوع المقدمة من المتحاكمين للوصول بالنتيجة إلى قرار يبت في موضوع النزاع بين المتخاصمين وهو بذلك يشبه القضاء ويختلف عن الطرق البديلة لحل النزاعات ADR مثل الخبرة والوساطة، لأن القرارات التي تصدر عن الوساطة هي اختيارية ليس لها صفة الالتزام أما قرارات المحكمين فهي ملزمة للأطراف.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن بعض الطرق البديلة لحل النزاعات وبالذات الخبرة الهندسية في عقود الـ FIDIC كما هو وارد في المادة 67 من شروطها النص على إلزامية قرار المهندس الخبير في حال عدم الاعتراض عليه خلال 90 يوماً من صدوره وهنالك نقاش حول من له الحق بالطعن به صاحب المشروع أم المتعهد أم الاثنان معاً. لامجال للبحث بهذا الموضوع حالياً إلا أن هذا المثال يهدف إلى توضيح بعض السلطات التي منحت للطرق البديلة لحل النزاعات مما يثير الشكوك على قضائيتها .
كما أن الفصل في نزاع من قبل المحكم عملاً بالقواعد القانونية النافذة يعطي صفة قضائية للتحكيم. إلا أن منح المحكمين سلطة البت بالنزاع دون التقيد بالإجراءات وتفوضهم بالصلح ينزع عنهم نوعاً ما هذه الصفة. وهنا يناقش البعض على حق الالتزام الذي وضعه القانون في بعض الحالات على القضاة بضرورة عرض المصالحة على المتداعين. وبذلك يتشابه المحكم المفوض بالصلح بالقاضي الذي يعرض الصلح على المتداعين وبثّبت مصالحتهم بقرار قضائي ( المواد 517 وما يليها من القانون المدني السوري مثلاً).
هذه باختصار شديد الصفة القضائية للتحكيم والذ دعته الدكتورة سامية الراشد نظام قضائي خاص يبدأ أساسه باتفاق الأطراف المتعاقدة أو المتنازعة.
2ً– الأساس الاتفاقي للتحكيم:
إن الأساس القانوني للتحكيم هو اتفاق الأطراف على ذلك ولا مجال لأي نقاش بهذا الصدد وبهذا يختلف التحكيم عن القضاء بأنه اختياري بينما القضاء إلزامي.
وحرية الأطراف في الاتفاق على التحكيم تمتد إلى اختيار المحكمين وفي النزاعات الدولية إلى اختيار لغة ومكان التحكيم والقانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم والقانون الواجب على موضوعه.
كما يمكن للأطراف اختيار هيئة تحكيمية للعودة إليها.
وهنا يختلف التحكيم عن القضاء بكل شيء حيث لا مجال في القضاء في اختيار المحكمة ( إلا في النزاعات الدولية حيث يمكن تحريك الدعوى في محاكم متعددة وهذا ما يسمى (shopping forum). أو اختيار القاضي أو القانون الواجب التطبيق على الإجراءات وعلى الموضوع.
ب - مزايا التحكيم بالمقارنة مع القضاء:
إذا ماعدنا إلى الإحصائيات المعدة من قبل مؤسسات التحكيم الدولية يتبين ازدياد نسبة النزاعات التجارية الدولية المعروضة على الهيئات التحكيمية. كما يمكن لأي محام مهتم بالأمور التجارية ملاحظة ازدياد اختيار الأطراف المتعاقدة لحل أي نزاع مستقبلي فيما بينهم عن طريق التحكيم.
في معزل عن الخلافات التي تتعلق بالأمور المصرفية يمكن تفسير اللجوء المتزايد للتحكيم ببعض المزايا التي يجد فيها رجال الأعمال ضالتهم بالوصول إلى حل النزاع بعيداً عن متاهات القضاء الوطني. يمكن اختصار هذه المزايا بمايلي :
1ً- السرية:
السرية في التحكيم حيث أن إجراءات التحكيم والمرافعات فيه بعيدة عن العلنية الملازمة للقضاء العادي وبذلك يستطيع رجال الأعمال إخفاء طبيعة نزاعهم وإجراءات التقاضي عن الجمهور.
2ً – المرونة:
المرونة في إجراءات التحكيم هي أيضاً من الميزات الأساسية له حيث يمكن للأطراف اختيار الإجراءات الواجبة التطبيق على التحكيم والتي قد تبدو لهم أكثر ملاءمة لنزاعهم وبذلك يتخلصون من القواعد الوطنية لأصول المحاكمات الملزمة التطبيق في القضاء الوطني. كما يمكن للمتخاصمين أن يعفوا المحكمين من إتباع أية أصول أو إجراءات ملزمة أثناء التحكيم.
إضافة إلى أن المحكمين يخرجوا غالباً عن القواعد القانونية الصارمة بتطبيقهم للنصوص التشريعية بطريقة مرنة وبتفسير النصوص القانونية بمعزل عن اجتهادات المحاكم وتسلسل السلطة القضائية. هذه الميزة يراها المصرفيين على أنها سيئة باعتبار أن المرونة من وجهة نظرهم تعني عدم إستقرار القواعد القانونية وبالتالي مخاطر إضافية.
3ً – خبرة وحيادية المحكمين:
حيادية وخبرة المحكمين هي صفة إضافية للتحكيم. والحيادية في اختيار المحكمين بعيداً عن القضاء الوطني لأحد الأطراف المتعاقدة لها أهمية كبيرة في العقود الدولية وبالتالي يمكن للأطراف أن يختاروا محكمين مستقلين وبعيدين عن الثقافة القضائية الواحدة أو يتم اختيار هؤلاء المحكمين من هيئة دولية مستقلة.
كما أن اختيار المحكمين لا يتم بموجب معيار الحيادية فقط ( وإن كانت نظرية أحياناً ) إلا أن معيار الخبرة له حيز كبير في اختياره. فعند وجود نزاع ناتج عن عقد بناء يكون تحديد المحكم نتيجة لخبرته في هذا المجال.
بعكس القضاء الوطني حيث يمكن البت بالدعوى من قبل محكمة ليس لديها أية خبرة سابقة في مثل هذه العقود.
إلا أنه لا يجوز المغالاة في حيادية وخبرة المحكمين. إذ غالباً ما يتم اختيار المحكم من قبل أحد الأطراف المتخاصمة نظراً لتعاطفه أو قبوله أو على الأقل قربه بثقافته القانونية والشخصية من الطرف الذي سمّاه. وعلى المستوى الدولي هذه الحيادية لها تطبيقات يمكن أن تثير بعض التساؤلات.
كما أن اختيار المحكم الخبير شيء ضروري إلا أنه يجعل من التحكيم، وبالذات الدولي منه، محصوراً على عدد معيّن من الأشخاص (الغربيين بشكل عام) المستفيدون من احتكارهم لهذا المجال المهم من الحياة القانونية والاقتصادية الدولية.
4ً– السرعة:
أهم ميزات التحكيم بالمقارنة مع القضاء العادي تتعلق بسرعة الوصول إلى قرار تحكيمي نهائي. وهذه الميزات ضرورية في الحياة التجارية التي تعتمد على صفتين هامتين ألا وهما الائتمان التجاري والسرعة في إنجاز الأعمال التجارية. فكثيراً ما يصدر قرار المحكمين بأقل من سنة أو حتى ستة أشهر من استلامهم مهمة التحكيم وحيث أن أغلب دول العالم بموجب قانونها الداخلي (المواد 519-520-530و 531و533 من قانون أصول المحاكمات السوري) أو بموجب تصديقها على اتفاقية نيويورك لعام 1958 لتنفيذ أحكام المحكمين، تعطي هذه القرارات صفة الإبرام وتكسبها صيغة التنفيذ المباشر. لذلك أصبح للتحكيم التجاري الداخلي أو الدولي صفة السرعة التي لا بد منها لحل النزاعات الت